فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)}
عطف على جملة: {ولا تتّبعوا} [الأعراف: 3] وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم.
وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم.
وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى، دون ذكر الأمم كما في قوله: {فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} [الحاقة: 5، 6]، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل {أهلكنا} بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول، فهو مغن عن أدوات الشّمول، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية، ونظيرها قوله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82] ونظيرهما معًا قوله: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} [الأنبياء: 6]، فكلّ هذا من الإيجاز البديع، والمعنى على تقدير المضاف، وهو تقدير معنى.
وأجرى الضميران في قوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله: {أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم} إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية، وهو {بأسنا بياتًا} لأنّ {بياتًا} متحمّل لضمير البأس، أي مبيِّتًا لهم، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال: {أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم}.
وكم اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام.
والإهلاك: الإفناء والاستئصال.
وفعل {أهلكناها} يجوز أن يكون مستعملًا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملًا في ظاهر معناه.
والفاء في قوله: {فجاءها بأسنا} عاطفة جملة: {فجاءها بأسنا} على جملة: {أهلكناها}، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه، ولما كان مجيء البأس حاصلًا مع حصول الإهلاك أو قبلَه، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقًا، وعنه أيضًا إذا كان معنى الفعلين واحدًا أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني.
وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل: جاءها بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود، والذي فسّر به الجمهور: أنّ فعل {أهلكناها} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم} [النحل: 98] وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية أي فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال: ومن أمثلة المجاز قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] استعمل {قرأت} مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالًا مجازيًا بقرينة الفاء في {فاستعذ بالله}، وقولُه: {وكم من قرية أهلكناها} في موضع أردنا إهلاكها بقرينة {فجاءها بأسنا} والبأس الإهلاك.
والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل، عزمًا لا يتأخّر عنه العمل، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد، للإرادة لتشابههما، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث، فدلّ الكلام كلّه: على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة.
والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه.
ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف المفصّل على المجمل، وبذلك سمّاه ابن مالك في التّسهيل، ومثَّل له بقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارًا عُربًا} [الواقعة: 35، 37] الآية.
ومنه قوله تعالى: {ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} [الزمر: 72] أو قوله: {فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} [البقرة: 36] لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج، وقوله تعالى: {كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 54] وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه.
والبأس ما يحصل به الألم، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء، وقد مضى عند قوله تعالى: {والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس} في سورة البقرة (177)، والمراد به هنا عذاب الدّنيا.
واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهًا لحُلول الشيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} في سورة الأنعام (43).
والبيات مصدر بَات، وهو هنا منصوب على الحال من البأس، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم، أي جاءهم ليلًا، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلًا، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب، هي أشدّ على المغزوّ، فكان ترشيحًا للاستعارة التّمثيليّة، ويجوز أن يكون {بياتًا} منصوبًا على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات.
وجملة {هم قائلون} حال أيضًا لعطفها على {بياتًا} بأو، وقد كفى هذا الحرفُ العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسَن، كما قال في الكشاف، وهو متابع لعبد القاهر.
وأقول: إنّ جملة الحال، إذا كانت جملة اسميّة، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين: أحدهما وصف صاحب الحال، فهذه تَجَرّدُها عن الواو قبيح، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتازاني في المطوّل، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة، نحو جاءني زيد هو فارس، إذ يغني أن تقول: فارسًا.
وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال، وفيها ضمير صاحب الحال، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوّ} [طه: 123] فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله: {بعضكم لبعض عدوّ} [طه: 123] وقولهم، في المثال: جاءني زيد هو فارس، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة المفتاح وعبارة ابن الحاجب فتأمّله.
وعُلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد.
وأو لِتقسيم القُرى المهلَكة: إلى مهلكة في اللّيل، ومهلكة في النّهار، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب، بحيث لا يأمنون في وقت مَّا.
ومعنى: {قائلون} كائنون في وقت القيلولة، وهي القائلة، وهي اسم للوقت المبتدئ من نصف النّهار المنتهي بالعصر، وفعله: قال يقيل فهو قائل، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت، ويطلق المقيل على القائلة أيضًا.
وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار: لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين.
والمعنى: وكم من أهللِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)}
وساعة تسمع {كم} فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلًا فلا يستفهم عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعدادًا خاصًا لمعيشة الناس فيه. وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين: أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال ذلك قوله الحق في سورة يوسف: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير...} [يوسف: 82]
وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل الحق: اسأل أهل القرية؛ لأن المسئول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع المكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا}.
وأيهما يأتي أولًا: الإهلاك أم يأتي البأس أولًا فيهلك؟. الذي يأتي أولًا هو البأس فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالًا، وإنما أمرها مسبق أزلًا، وكأن الحق يقول هنا: وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلًا، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه الله حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلًا أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن يتلى؛ ليأتي السلوك موافقًا ما أخبر به الله. {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]
والبأس هو القوة التي ترد ولا تقهر، و{بياتًا} أي بالليل، {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة؟. ونجد في خبر عمّن أَهْلِكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا. {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177]
أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس. {... فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4]
وإذا قال سبحانه: {بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فيصح أن لهذه القرية امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون الوقت عندهم ليلًا، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهرًا للاسترخاء والراحة. ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم؟. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
وفي {كَمْ} وجهان:
أحدهما: أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و{مِنْ قَرْيَةٍ} تمييزٌ، والضمير في {أهْلَكْنَاهَا} عائد على معنى {كَمْ}، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير: وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا.
قال الزَّجَّاجُ: و{كَمْ} في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ؛ لأن قولك: زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ أجود من قولك: زَيْدًا ضربتُهُ بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضًا لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل {أهْلَكْنَاهَا} صفة لـ {قرية}، والخبر قوله: {فَجَاءَها بَأسُنَا} قال: وهو سَهْوٌ؛ لأن الفَاءَ تمنع من ذلك.